قال له القسيس فرنسيس باستنكار وألم، بعد فضيحة تحرش بالاطفال لأحد البارزين فى الفاتيكان وتم التعتيم عليها ومحاسبة المجرم بالنقل فقط ، مبررا ذلك بانه يفضل التضحية بألم وجراح الأطفال على أن تفقد الكنيسة الكاثوليكية ملايين من أتباعها نتيجة لفقدان المصداقية، أجابه البابا بندكيت: لم أكن أعرف.. لم اكن عرف .
ذلك كان الحوار الأساسى الذى جعلنى أتابع بشغف، الفيلم الجميل ذا الرسائل المتعددة، "البابوان" بطولة المبدع أنتونى هوبكنز وجونسو برايس وجوان منجوم فى دور البابا فرانسيس شابا وكهلا! خاصة بعد يوم من قراءة خبر حقيقى فى الصحف يفيد القبض على مسؤول دينى بتهم التحرش بعشرات الأطفال فى كل الكنائس التي عمل بها ولم يجدوا فى محاكمته أي انتقاص من هيبة الكنيسة.
كان الكاردينال فرانسيس المتواضع المؤيد للتغيير بما يواكب العصر والمتفهم لمتغيراته ومتطلباته يناقش البابا المتمسك بتقاليد الفاتيكان كرئيس لطائفة الكاثوليكيين فى العالم.. نقاشا إنسانيا عقلانيا دينيا، كل منهما متسمك بوجهة نظره، الماضى بقدسيته التى تزداد ثقلا وتاثيرا مع الأيام، والحاضر المؤسس للمستقبل الذى يرى ان التطور حتمي ومطلوب فى الحياة كما فى المؤسسة الدينية، وإلا سيخفت تأثيرها ويتخلى عنها رعاياها وينتهى دورها الهام فى حياة الكاثوليك.!
الفيلم المستوحى وقائعه من أحداث حقيقية.. يدور حول حياة البابا سان فرانسيس القسيس الذى ضحى بكل شيء وأولها بحب حياته من أجل رغبته التفرغ لخدمة الكنيسة، والذى ظل حائرا لفترة طويلة حتى جاءت صدفة دخوله لإحدى الكنائس يوم تقدم لحبيبته بخاتم الخطبة ورأى فيها رسالة من السماء لتعزيز اختياره لتنهى حيرته بين الانخراط فى حياة الرهبنة والتمتع بملذات الحياة الإنسانية لكل البشر وتجاربها الغنية وعطاياها اللا محدودة.. اختيارصعب و قرار يلزمه مدى حياته.
كان مختلفا إلى حد كبير فى ممارسته لحياة القس الراعى لأعضاء إبراشيته.. بسيطا فى كل شيء، يتعجب من الرفاهية التى تحيط بمنصب البابا، وكان اقرب لحياة البسطاء.. لم ينعزل عنهم بين صفحات الكتب كما اعترف له البابا بنديكيت فى اجمل لحظات الفيلم، وهو يعلمه بنية اعتزاله المنصب الدينى الرفيع، لأنه لم يعد يشعر بقدرته على استقبال رسائل الرب قائلا ببساطة: لم اعد استطيع الاستمرار.. وتلك كانت سابقة فى العهد الحديث.
رفض فرانسيس نية اعتزاله، متمسكا باستمرار البابا مدى الحياة كما هو متعارف عليه، فداعبه قائلا: لقد تغيرت تلك الفكرة عندى، كما تغيرت أنت عن كثير من أفكارك، أنت أكثر فهما وقدرة على العطاء، لأنك عرفتهم وعرفت نقاط الضعف الإنسانى وكيف يخطيء ويفسد، أما أنا فعشت منعزلا منذ شبابى عن الحياة الحقيقية وما تحمله من صعاب وأسباب السقوط.
استعرض الفيلم تاريخ حياة البابا فرنسيس، وهو يتذكر التفاصيل المؤثرة فى حياته والتى شكلت شخصيته المتميزة المنفتحة للحياة.. كان أرجنتينيا بحق ومن ثم عشق رقصهم المعجون بحب الحياة، وكرة القدم التى أذهلت العالم بأدائها المتميز ويتحمس لها كأى موطن اصيل، وصرخ معهم فرحا وغيظا كأي إنسان عادى ولم يجد فيه أى تعارض مع دوره الدينى.. كان مختلفا حقا حتى أنه فى حواره مع البابا بندكيت تساءل: لم تفرض العزوبية على القساوسة إلا فى القرن الثانى عشر، فلماذا التزمنا بها؟ ربما كان يحاول أن يجد سببا منطقيا وليس تبريرا لتوجه بعضهم إلى الأطفال لغياب المرأة فى حياتهم!
كان ببساطة إنسان عادي، ولكنه أيضا قسيس ملتزم بتوجيه رعاياه وحمايتهم وتقريبهم لفهم الدين الصحيح، الذى يرى أن أساسه الرحمة وقبول توبة المخطىء وإعطاؤه أملا فى المغفرة حتى لايجرفه اليأس وتستمر معصيته.
كان يرى التغيير حتميا ومطلوبا، وعندما سإله البابا بنديكيت عن تغييره لبعض أفكاره عن المرأة والمثالية وأفكار كثيرة كأنها نوع من المواءمة والتنازلات الصغيرة التى تلائم السياسيين لا القساوسة، قال له: لا لم يكن تنازلا.. كان تغيرا، والفرق كبير.. لقد تغيرت أفكارى مع الزمن وتطور الحياة والعلاقات بين البشر.. لقد تغيرت بحق عن تجارب واقتناع.
الفيلم كان عبارة عن مباراة فى التمثيل والحوار الراقي ما بين أضداد، تغلفه المحبة والصدق وحب الله ودينه والخوف على الرعية والدين من الضياع!!
قدم لنا شخصية القسيس الذى أصبح كاردينال ثم بابا، على أنه انسان مثلنا جميعا لا قداسة له، يخطيء ويصيب وليس ملكا منزلا من السماء.. وتلك هالة يفرضونها علينا فى كل الأديان عبر خلط الإنسانى بالمقدس، لتصبح آراؤهم ربانية غير قابلة للنقد أو التغيير، مما يؤدى إلى تجمد المجتمعات ورضوخها لديكتانورية دينية، بما يصبح معه رضوخهم لديكتاتورية سياسة بتبعاتها الكارثية المعروفة، أمرا عاديا!
تذكر البابا فرنسيس حياته شابا، عندما واجه الحكم العسكرى المجرم فى الارجنتين بعدما ارتكب جرائم مرعبة أدت لقتل واختفاء فوق المليون شخص، اضطر فيها القسيس أن يبقى على علاقة مواءمة معه حتى ينقذ الكنيسة والقساوسة من بغيه، ولكن لم يفهم زملاؤه أهدافه، واتهموه بالتفريط و الخيانة. وتلك كانت نقطة سوداء فى تاريخه وظل طوال حياته يتساءل: هل أخطأت عندما حاولت التعايش مع قوة باغية لم استطع مواجهتها ودفع زملائى الثمن تعذيبا وقتلا لإصرارهم على مواجهة فى معركة خاسرة؟ هو الشك الإنسانى المشروع ورجال الدين ليسوا استثناء إلا عندما نقدسهم، وتتوقف عقولنا عن التفكير والمحاسبة!.. أجمل ما فى الفيلم هو صدق الحكي عن علاقة البابوين الرائعين في إيمانهما بافكارهما المتعارضة.
قال له البابا المتمسك بالكلاسيكية العقلانية فى التفكير الديني: ربما لم أفهم هذا التغيير المطلوب فى حياة المؤمنين المختلف عما التزمت وآمنت به طوال حياتى.. ولكن أفهم الآن شيئا واحدا.. أنك المطلوب الآن لكرسى البابوية.. أنت التغيير المطلوب لهذا الزمن.. من فعل ذلك من رجال الدين سواء المسلم أو المسيحى؟ أو من رجال الحكم، تفضيل مصلحة الآخرين المسؤلين منه على نفسه ومنصبه؟.
هنا تأتى عظمة الشخصية وصدقها والتزامها الحقيقى بالدور الذي خلقت له. انتهى الفيلم بأن تنازل البابا عن كرسى البابوية وتم اختيار القسيس فرنسيس، وتماشيا مع شخصيته رفض أي مظاهر للأبهة فى حفل تنصيبه وارتدى ملابس بسيطة ومارس حياة البابوية بابسط ما يكون، فأثار دهشة وحب الكثيرين الذين لم يعتادوا أن تقترن الأفعال بالأقوال، وفى آخر الفيلم تذكر البابا فرنسيس مقولة أستاذه وصديقه اللدود.. تذكر أنك توصل رسالة الرب وتخدمه ولكنك لست الرب! مقولة أتمنى أن يدركها عالم السياسة أيضا.
------------------------
بقلم: وفاء الشيشيني